كتاب «ذاكرة ملك» للملك الحسن الثاني
(تابع)
وبلغت عناية ملوك المغرب الأماجد بالتاريخ جمعا وتدوينا إلى حد إحداث منصب المؤرخ الرسمي للمملكة، تنحصر مهمته في تسجيل جميع الأحداث الوطنية وعلاقتها بالوقائع العربية والإسلامية والأجنبية.
ويعد جلالة الملك الحسن الثاني – رحمه الله – من أكثر ملوك المغرب عناية بالتاريخ الوطني والقومي خاصة، والعالمي عامة. ويمكن إرجاع ذلك إلى عدة عوامل ذاتية وموضوعية، تتجلى الأولى في الميل إلى دراسته، والتخصص فيه بجانب العلوم الأخرى، وإيثار البحث الأكاديمي في مجاله الفسيح، وقد أكد – رحمه الله – ذلك بقوله: (1) ص: 2-3.
«فحينما أحرزت شهادة الباكالوريا ذهبت عند والدي لأفسر له أنني تحدوني الرغبة في دراسة التاريخ».(2)ص: 177.
وكان والده السلطان محمد الخامس – طيب الله ثراه – خير مشجع له على الاهتمام بالتاريخ، وتعميق الدراسة فيه:
«والحمد لله على أن أبي كان شيدي الحرص على أن أتابع دراسات معمقة في الأدب، وفي التاريخ خاصة».(3) ص: 12.
وتنحصر العوامل الموضوعية لهذه العناية في إدراك جلالته –رحمه الله – لأهمية التاريخ في حياة الأمة، حاضرها ومستقبلها، فهو الذي يثبت هويتها، ويوحد كلمتها، ويخلد مآثرها وأمجادها، ويرقى بها إلى مدارج العلا والسناء.
ويشهد كتاب جلالته القيم: «ذاكرة ملك» على هذا الاهتمام، ويعكس بكل جلاء تأصل التاريخ في شخصيته الموسوعية التي جمعت فأوعت: فالكتاب ينضج بمعطيات تاريخية هامة، تعرفنا بأصالة الأمة المغربية وبوحدتها الروحية بعد انصهارا في بوتقة الإسلام، يقول جلالته:
«تم التمازج العرقي بشكل عام بين البرابرة المنحدرين من اليمن، وعرب قريش الوافدين من سوريا ومصر وليبيا، فهؤلاء الأشخاص تزاوجوا وكونوا مجتمعا واحدا».(4) ص: 148.
كما تعرفنا على دواعي قدوم جد الأشراف العلويين وملوكهم الأماجد من ينبوع النخل بمكة المكرمة إلى بلاد المغرب الكريمة بكل أمانة وموضوعية:
«إننا لم نأت إلى هذا البلد لنستولي على الحكم، وإنما أتيتا لأنه طلب منا ذلك. ولما كانت واحات النخيل في صحرائنا تافيلالت تتعرض للإبادة من لدن حشرة «الفطر» التي كانت تنخرها، فقد ظن الناس أن وجود واحد من آل الرسول سيقيهم سوء هذا البلاء. وشاءت معجزة التاريخ أن يصادف وصول جدي الحسن إلى المغرب السنة التي نجت فيها تلك الواحات من الهلاك فمكثنا هنا».(5) ص: 35.
واندمج أجدادا الأشراف العلويين الأكارم في صلب المجتمع المغربي الأصيل بالتزواج والمصاهرة وصاروا عضوا نشطا في كيانه المتعاضد: أوفياء لملوكه، مخلصين لعرشه المجيد، ذائدين عن حياضه بالنفس والنفيس:
«لقد عاش أجدادي أربعة قرون في المغرب، كرعايا لمختلف الأسر الملكية، لقد ولدوا هنا، وأدوا الضرائب، وحاربوا حين كان لا مناص من الحرب خصوصا في الأندلس، بل في عهد بني الأحمر التمس أهل الأندلس من جدي مولاي علي الشريف أن يتولى قيادة جيشهم، فكان جوابه، وهو محفوظ عندنا:
«دعوني وشأني، لقد جئت للجهاد ضد الكفار تلبية لنداء السلطان أمير المؤمنين، ولقد أديت الرسالة، والآن سأعود لدياري»
ولم يتقلد الأشراف العلويون زمام أمر هذه البلاد السعيدة الآمنة إلا بعد أن دب الضعف في دولة السعديين، وأصبحت قاب قوسين أو أدنى، بحيث لم تعد تقوى على مواجهة الأعداء الألداء، ورد اعتداءاتهم الغاشمة على سواحله الشاسعة الأطراف، فكان استبدال هؤلاء الأشراف العلويين الأشاوس بملوك هذه الدولة المنهارة والمغلوبة على أمرها قدرا مقدورا، لتعود للدولة المغربية هيبتها ومناعتها، وترجع كسالف عهدها الحصن الذي تتكسر على عتباته أطماع العداة، وتتلاشى أحلامهم الواهية، ويحلل جلالته – أيده الله – ذلك بفكرة الثاقب قائلا:
«وقد كانت تنحية الملوك السعديين من لدن طائفة من العلماء والأعيان الذين توجهوا إلى تافيلالت باحثين عن جدي وقالوا له: (إن الملوك السعديين تخلوا عن الدفاع عن التراب الوطني وإن لأجانب استقروا على طول الساحل الأطلسي، والآن عليكم أن تهبوا للدفاع عن حوزة البلاد)».(7) ص: 55 – 56.
وقد كانت الاستجابة لنداء الواجب بداية انبلاج فجر الدولة العلوية الشريفة التي واصلت مسيرة المجد الأثيل، والإشعاع الحضاري، ووطدت علاقات المغرب بدول العالم سياسيا واقتصاديا كفرنسا التي قال عنها جلالته:
«فغالبا ما يوجد في تاريخ المغرب وفرنسا نقط التقاء، ولاسيما على عهد الدولة العلوية، أي من بداية عهد لويس الثالث عشر حسب التاريخ الفرنسي».(8) ص: 177.
وحرص الملوك العلويون على تنمية هذه العلاقات وتطويرها، حيث بلغت في عهد السلطان المعظم مولاي إسماعيل – طيب الله ثراه – أوجها، وهو ما يبينه جلالته بقوله:
«وكان لجدي مولاي إسماعيل الذي كان معاصرا لـ: (لويس الرابع عشر)، لقد كانا يتوليان السلطة في نفس الحقبة تقريبا، ودام عهد حكميهما نفس المدة، لقد قال مولاي إسماعيل ذات يوم مخاطبا جلساءه: «يتعين على أن أجد حليفا لي في أوربا». وأخذ يستعرض مختلف الأنظمة الأوربية القائمة، وكانت البداية من انجلترا حيث قال: «إن بلدا لا يحكم فيه ملك ويمكن أن يعتلي فيه امرأة العرش لا يهمني في شيء».
كما استبعد أيضا إسبانيا وكنا مع ذلك على اتصال معها، ودي أحيانا، ومطبوع بالنزاعات أحيانا أخرى، لقد استبعدها لأنه كان يرى ملكية خاضعة لسلطة الكنيسة لا تترك للملك حرية ممارسة الحكم، وتوقف في الختام عند فرنسا فقال عنها: «إني أود أن أربط علاقات مع لويس الرابع عشر، لأنه يحكم بلاده فعلا». وأخذ يعدد الأسباب الموضوعية التي جعلته يختار ويفضل إقامة حلف فرنسي مغربي إلى حد أنه طلب يد الأميرة (دوكونتي).
ولم تسفر خطبة المولى إسماعيل للأميرة الفرنسية عن نيل المراد، وتحقيق البغية، برغم المساعي التي قام بها السفير المغربي لدى والدها الملك لويس الرابع عشر ويوضح جلالته –نصره الله – ذلك بقوله:
«لقد رد الفرنسيون بقولهم: «طلبكم هذا غير ممكن تلبيته، فأنتم تأخذون بنظام تعدد الزوجات، وستضيع الأميرة المسكينة وسط مجموعة النساء». وأمام هذه البراهين قال سفير المغرب في فرنسا ابن عائشة لـ: (لويس الرابع عشر) تحديدا: (يا جلالة الملك لقد جئنا نطلب من جلالتكم يد الأميرة لأنها تتوفر فيها الخصال والصفات التي تفتقدها النساء الأخريات)». (10) ص: 178.
إلى هذا المستوى بلغت علاقات المغرب الديبلوماسية بفرنسا في عهد هذا السلطان الهمام، وهو ما يدل على تفتحه على العالم الخارجي، وتسامحه الديني مع الدولة الأجنبية عملا بقول الله تعالى في محكم كتابه:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير).(11) سورة الحجرات – الآية: 13.
ووقف الملوك العلويين من قضايا الحرية والاستقلال موقف التأييد والمناصرة، ومن الطريف في هذا الصدد ذكر ما نبه عليه جلالته بقوله:
«ينبغي أن لا يغيب عن الذهن أننا أول بلد في العالم اعترف بالولايات المتحدة الأمريكية وذلك قبل مائتي عام».(12) ص: 6.
ويردف ذلك بقوله:
«وإن أول نزاع في حياتها الدولية كان مع ليبيا، في ذلك الوقت طلبت الولايات المتحدة من جدي محمد الثالث التدخل لدى المسؤولين الليبيين».(13) ص: 6.
وهكذا كان المغرب في هذا العهد المجيد يضطلع بمهمة رسول السلام في العالم، ممثلا بذلك الريادة في الصلاح والإصلاح.
وكانت علاقات المغرب الاقتصادية بالعالم الخارجي متميزة في كثير من العهود، حيث ازدهرت المبادلات التجارية وبلغت ذروتها مع بعض دوله كإيطاليا في عهد الدولة السعدية التي قال جلالته – نصره الله – عن أحد سلاطينها:
وتطلع المغاربة في عهد الدولة العلوية الشريفة إلى الحياة الدستورية، رغبة في إرساء دعائم القانون، ومسايرة روح العصر، حيث:
«تم التفكير منذ عهد المولى عبد العزيز وإبان الحماية في إعداد الدستور، لقد كانت هناك عدة مشاريع ما بين 1908 و1812، ولم يكن ذلك متناقضا مع القرآن الذي يأمر بالشورى، أي الاستشارة مع الآخرين». (16) ص: 57.
وتشع من «ذاكرة الملك» لجلالته – أيده الله – أنوار وهاجة تكشف عن تباشير الحركة الوطنية المباركة في مغرب الحرية:
«في سنة 1944 تم التعبير لأول مرة بواسطة عريضة عن المطالبة بالاستقلال، وقد أعقب ذلك قمع دموي قادة السفير (بيو) الذي كان آنذاك مقيما عاما بالمغرب، بينما كان الجنرال (لوكلير) والفرقة المصفحة الثانية مرابطين في تمارة بضواحي الرباط».(17) ص: 4.
وكانت مشاركة جلالته في هذه الحركة فعالة برغم حداثة سنه، معبرا بذلك عن إرادة الحرية، التي هي إرادة الشعب المغربي الشهم الباسل، وقد احتفظت دارته – حفظه الله – بذلك: «هناك تاريخ مضبوط ظل عالقا بذاكرتي، هو 29 يناير 1944، ففي ذلك اليوم اكتسح جمهور من المتظاهرين شوارع الرباط مرددين شعارات المطالبة بالاستقلال، وبلغني صدى هذه المظاهرات وأنا داخل المعهد المولوي، فتخطيت سوره، والتحقت بالمتظاهرين».(18) ص: 4.
وتمخضت هذه الحركة عن ضحايا في صفوف المناضلين، ومحاسبة عسيرة للأمير المولى الحسن – أيده الله – من طرف الإقامة العامة الفرنسية:
«وتطورت الأحداث إلى وضع مأساوي حيث قتل من قتل، أما بالنسبة لي فقد أحرج سلوكي هذا والدي، وذلك حين استنكرت الإقامة العامة الفرنسية ما قمت به، وأوفدت سلطات باريس «عقيدا» من أعضاء المكتب الثاني حيث أقام بالمغرب ثلاثة أسابيع للتحقيق في أنشطة الأمير مولاي الحسن ومشاعره المعادية لفرنسا».(19)ص: 4.
هذه شذارت ذهبية من تاريخ المغرب المجيد، جادت بها ذاكرة ملك المؤرخ مولاي الحسن الثاني – أبقاه الله ذخرا للبلاد والعباد – لتكون لجيلنا الصاعد نبراسا يستنير به في مسيرته العلمية والحضارية، وليعلم علم اليقين أن وطنه العزيز كان عبر عهوده الزاهرة دولة التاريخ المجيد والخالد.
وستظل «ذاكرة ملك» المأثرة الفكرية الحضارية مفخرة لأمتنا، تعتز بها في مثل هذه المناسبة الغالية التي تطالعنا فيها ذكرى ميلاد جلالته – حفظه الله بالسبع المثاني – والتي نخلد بها عيد الشباب، رمز الأمل الباسم لأمة المكارم والأمجاد.
فصل من كتاب "ذاكر ة ملك"، حول المسيرة الخضراء
سؤال: بالنسبة لقضية الصحراء، يبدو أنه كان هناك مستويان : النزاع مع إسبانيا من جهة، والمواجهة، مع الجزائر من جهة أخرى.
جواب: أجل، ففي ثالث مارس 5771 ،وبمناسبة عيد العرش استقبلت السيد صوليس مسؤول حزب الكتائب اإلسباني الذي جاء ليمثل الجنرال فرانكو في االحتفاالت، وقلت له يا سيد صوليس، أبلغ الجنرال أنه لو رفض فتح حوار معنا، فإنني سأبتليه بفيروس تقرير المصير في الصحراء، وسأطلب من األمم المتحدة تقرير المصير في هذا اإلقليم. وبما أننا لم نتلق أي رد على ذلك طرحنا رسميا في سبتمبر 5771 ،قضية تصفية االستعمار بالصحراء.
سؤال : وبضع سنوات بعد ذلك بعثتم برسالة شديدة اللهجة إلى الجنرال فرانكو ذهبتم فيها بعيدا إلى درجة التهديد بالتدخل العسكري.
جواب : أستغرب أن يكون قد صدر عني ذلك، فأنا أتذكر جيدا ما أتفوه به، وليس من طبعي أبدا أن أكون بهذا الوضوح عندما يتعلق األمر بتهديدات. فقد بعثت بالفعل خطابا إلى الجنرال فرانكو، وما زلت أحتفظ بمسودته، ألنني حررته بنفسي، فالخطاب في جوهره كان حقيقة قاسيا، ولكن كان مهذبا ولبقا في شكله، على كل حال فرانكو رجل مسن، وكان له تجاهنا بعض الود وإن لم يكن ذلك الود في مستوى ما كنا دائما نتوخاه، غير أن ذلك ليس بالسبب الذي يجعلنا غير مهذبين وغير لبقين معه.
سؤال: وهل لقيتموه بعد ذلك؟
جواب: بالضبط، وعند ذلك فقط أدركت لماذا أكد هتلر بعد أزيد من أربع ساعات من التفاوض معه- لكي يسمح للقوات األلمانية بعبور إسبانيا في اتجاهها إلى إفريقيا الشمالية- بأنه كان يفضل الذهاب عند طبيب أسنانه للعالج بدون بنج، على أن يذهب للتفاوض مع فرانكو، حيث أني لقيت هذا األخير سنة 5795 بمدريد عندما كنت أقوم بزيارة عمل، لقد كان إنسانا مهذبا للغاية، من األنصار المتحمسين جدا للنظام الملكي، كما كان يكن احتراما كبيرا للملوك، وكنت أول من تناول الكلمة محاوال أن أشرح لفرانكو أن مصلحة إسبانيا تكمن في أن يكون لها تعاون في المنطقة يطمئنها على الحماية االستراتيجية لجزر الخالدات ويضمن لها ذلك التعاون االقتصادي الذي تتطلع إليه، سواء تعلق األمر بالخيرات الموجودة على سطح األرض أو بما في باطنها، أو بثروات البحر. وبالنسبة للصحراء ذهبت حد اقتراح إقامة قواعد عسكرية بها في إطار اتفاق يتم بيننا على قدم المساواة. واسترسلت في الحديث ساعتين دون انقطاع، في حين التزم فرانكو طيلة هذه المدة بسكوت وهدوء مثيرين للدهشة. ولم يكن يتحرك في جسمه سوى العينين وأهدابهما . وبعد أن أنهيت عرضي استلقيت بظهري على الكرسي ، وأنا أقول مع نفسي : "اآلن وقد عرضت عليه وجهة نظري، فسأسمع لرده "، وقد أجابني عن ذل ذلك بعبارة واحدة هي " إن ما تطلبونه منا يا صاحب الجاللة عملية انتحارية، فال أنا وال إسبانيا مستعدان لذلك". هذا كل ما قاله . وبعد ثالث دقائق أضاف، " إذا سمحتم هيا لتناول طعام الغداء، لقد أعددت لكم إقامة بالجناح الشمالي للقصر، فهل تودون غسل يديكم؟ وفعال نهضنا. والحقيقة أنني ال أنسى هذه االزدواجية في معاملة فرانكو لي. فقد أفضت في عرض وجهة نظري حوالي ساعتين، فيما كان رده في منتهى اإليجاز.كما أن رفضه القتراحاتي لم يمنعه من أن يكون معي في غاية الود واللطف طيلة مدة إقامتي بإسبانيا. وقد تجاذبنا أطراف الحديث لفترة طويلة، كما ذهبنا للقنص معا، لكنه ظل على موقفه ولم يتزعزع عنه قيد أنملة.
سؤال : وما هو االنطباع الذي خرجتم به من لقائكم مع فرانكو؟
جواب : لقد خرجت بانطباع أولي أال وهو وجود هوة بين جيلين ترتب عنها عدم التفاهم في التحليل. كما أدركت أنه كانت تخونه القدرة على استشفاف المستقبل. إن األمر في ميدان السياسة شبيه إلى حد ما بتصمصم "بيغ بن"، إذ يتعين القيام بقفزة أنطولوجية كبرى، )كما يقول كانط(، لكني أدركت أن سن فرانكو ال يتيح القيام بهذا المجهود، وآنذاك قدرت مدى الخطورة التي قد يأخذها تطور األحداث بين إسبانيا والمغرب. وعدت إلى بلدي قلقا جدا وأنا أتضرع إلى الباري " يارب قنا شر بعضنا البعض، وجنبنا أية مواجهة بيننا" ذلك أني كنت واثقا من أن الحوار أصبح مستحيال.
سؤال: لكنه مع ذلك تم اإلبقاء على االتصاالت والمفاوضات؟
جواب: لقد جاء السيد لوبيز برافو وزير الشؤون الخارجية اإلسباني لزيارتي، ثالث مرات، واكتشفت في النهاية أنه إنما كان يراوغ فقط وأنه يطعننا من الخلف، وفي المرة األخيرة التي استقبلته فيها قلت له : " ياسيد برافو، تعهدوا لي بأنكم لن تمنحوا االستقالل الذاتي للصحراء. ورغم أنني سأبدو صلفا، فأنا مستعد ألن أفضل مرة أخرى استمرار االحتالل اإلسباني- إلى أن نتوصل إلى اتفاق ) ألن هذا اإلقليم جزء من المملكة(، على أن أراكم تسلمونه آلخرين"، فرد السيد برافو"، بالطبع اطمئنوا فأنا أعدكم وسأبلغ فرانكو بذلك". واكتشفت فيما بعد أنه في الوقت نفسه يتفاوض مع الجزائر، بشأن صفقة غاز عن طريق وساطة شركة "ماتيسا" التي كانت في ملكية أخيه، الذي كان وراء أكبر فضيحة مالية عرفتها إسبانيا، وباختصار وجدت نفسي في وضعية ال يخرج منها إال من كان بارعا في الكذب.
سؤال : لقد كانت الصحراء بمثابة مباراة غريبة األطوار في الشطرنج مع بومديان.
جواب : إن تكويني القانوني علمني أنه على المرء أن يتحلى دائما بحسن النية ، فبكل صراحة لم أكن أعتقد أبدا أنني أمام محاور ذي شخصية مزدوجة، فقد كان بومدين يظن أنني أوقعت به ، ففي سنة 5791 ،كنا مجتمعين في أكادير وبمعيتنا الرئيس الموريتاني ولد داده، والحقيقة أنني لم أكن مرتاحا ، فحدسي كان ينبئني بأن هناك تواطؤا ما يدبر في الخفاء، ومكثنا يومين وليلة، وفي المساء قلت لضيفي، لقد ضحيت بالكثير من أجل إقامة عالقات صداقة مع بلديكما، وتوخيت من ربط هذه الصداقة ضمان استقرار المغرب والمنطقة، وعملت على نسج خيوط التعاون بين دولنا الثالث، فإذا كان من شأن قضية الصحراء أن تحدث شرخا في هذا النسيج القائم بيننا، فأقترح حفاظا على هذه الصداقة- أن ينكب كل واحد منا على الشؤون الخاصة لبالده، دون أن ينخر مشكل الصحراء جسم هذا الثالثي. واعتقد بومدين أن كالمي كان موجها إليه. وفي المساء ونحن على مائدة العشاء بدا بومدين مقطب الجبين. فانحنيت اتجاهه بكل لطف وهمست في أذنه " لماذا يبدو على محياكم هذا العبوس. إنكم ترددون أينما حللتم وارتحلتم في شتى المناسبات أن ال أطماع لكم في الصحراء. وإذا كان منا من يتعين عليه أن يحس بالحرج فهو صديقنا الموريتاني الذي يطالب بهذا اإلقليم. خذوا إذن راحتكم وابتسموا وال تستاؤوا من أقوالي. فأجاب : " ال ال، فأنا ال أشعر أبدا أنكم قصدتموني بكالمكم"، ثم انتقل بما عرف عنه من تملص إلى موضوع آخر. لكنني أحسست أن الرجل انقبض كما تنكمش المحارة عندما تصب عليها نقطة من حامض الليمون.
سؤال : في يوليو 5791 ،قرر اإلسبان قبول نقل السيادة للصحراء، كيف كان رد فعلكم؟ جواب: لقد احتج المغرب على ذلك وعرضنا القضية على محكمة العدل الدولية بالهاي ووجدت إسبانيا نفسها مضطرة النتظار الرأي االستشاري للمحكمة. سؤال: واصلت المحكمة النظر في القضية حتى نهاية شهر غشت 5791 ،وأصدرت رأيها في 57 أكتوبر، فماذا فعلتم في غضون ذلك؟
جواب: في 12 غشت كان علي أن ألقي خطابا بمناسبة ذكرى الملك والشعب، وهي الذكرى التي تخلد تاريخ نفي األسرة الملكية. وعشية ذلك اليوم، كنت أتساءل مع نفسي: "ترى ماذا عساي أن أقول في هذا الخطاب؟ وفي المساء وبعد أن أديت صالة العشاء، أخلدت إلى النوم، فاستيقظت فجأة في منتصف الليل، تراودني فكرة نفذت نفوذ السهم إلى ذهني وهي: "لقد رأيت آالف األشخاص يتظاهرون في جميع المدن الكبرى مطالبين باستعادة الصحراء، فلماذا إذن ال ننظم تجمهرا سلميا ضخما يأخذ شكل مسيرة؟ وهنا أحسست أني قد تحررت من عبء ثقيل للغاية. وقد اكتفيت في خطابي في اليوم الموالي بالتطرق لبعض القضايا العامة. إثر ذلك استدعيت وزير التجارة ووزير المالية وقلت لهما: "إن شهر رمضان قد يكون قاسيا، إذ المحاصيل الزراعية كانت متوسطة، فهل يمكنكما من باب االحتياط، تخزين كمية من المواد الغذائية؟ حتى إذا وجدنا أنفسنا في حاجة إلى عرضها في السوق أمكننا المحافظة على سعر ثابت لها، فأجابا، " بكل تأكيد، وماهي الكمية التي يتعين تخزينها؟" قلت لهما، "تموين يكفي لشهر أو شهرين"، ولم يفطنا لشيء، وهذا ما كنت أرغب فيه. واستعديت بعد ذلك أولئك الذين سيصبحون إلى جانبي المسؤولين الثالثة عن المسيرة وهم: الجينرال أشهبار الكاتب العام إلدارة الدفاع، والجنرال بناني من المكتب الثالث، والكولونيل ماجور الزياتي من المكتب الرابع، وبعد أدائهم اليمين بعدم إفشاء السر حتى ولو لم يكونوا متفقين على ذلك، شرحت لهم أن عدد المشاركين في المسيرة سيصل إلى ثالثمائة وخمسين ألف نسمة. فقالوا مستفسرين "لماذا كل هذا العدد؟" فأجبتهم، " إن المسألة في غاية البساطة. فهناك ثالثمائة وخمسون ألف مغربي ومغربية يولدون كل سنة، وبالتالي فإن هذا العدد ليس باألهمية التي تؤثر على عدد السكان". وقد ألهبت الكرة على التو حماسهم وشرعوا في العمل بدون كاتبات أو أجهزة حاسوب، وكانوا يحررون كل شيء بأيديهم، حيث كان يتعين إحصاء كمية الخبز الالزمة إلطعام ثالثمائة وخمسين ألف شخص، وعدد الشموع الضرورية إلنارة الخيام. وهكذا عملنا- نحن األربعة- في سرية تامة حتى مطلع شهر أكتوبر، وهنا كان البد من اإلسرار للحكومة بذلك، وكذا لعمال األقاليم حتى يفتحوا في الوقت المناسب المكاتب لتسجيل المتطوعين.
سؤال: لماذا تأخرتم كل هذا التأخير في إخبار الحكومة؟
جواب: ألن كتمان السر كان أسهل بين أربعة أشخاص، أكثر منه بين ثالثين. فما بالكم إذا أفشي السر ألزيد من أربعين عامل إقليم سيما وأن تسرب هذا السر كان سيكون مميتا وستكون له انعكاسات وخيمة على الصعيد الدولي. وبحلول 57 أكتوبر، أصدرت محكمة العدل الدولية بالهاي رأيها االستشاري واعترفت فيه بأن روابط البيعة كانت قائمة على مر العصور، بين المغرب والصحراء. فوجهت خطابا إلى شعبي أعلنت فيه عن تنظيم المسيرة الخضراء. وقبل أن أتم خطابي، وكان ذلك في الساعة الثامنة ونصف مساء في بهو مفتوح النوافذ، بدأت أصداء الصيحات المتعالية من األحياء المجاورة للقصر بمراكش تصل إل مسامعي. ففي كل مدن وقرى المملكة خرج الناس إلى الشوارع يهتفون ويصيحون: "نحن متطوعون"، لقد تجمهرت في كل مكان حشود تفيض حماسا منقطع النظير، وكان باإلمكان لو أردنا ذلك أن نعبئ مليونا أو مليوني شخص لهذه المسيرة . وقد شكلت النساء عشرة في المائة من العدد اإلجمالي للمتطوعين، واكتشفنا فيما بعد أن منهن من كن حامالت، وإن إحدى عشر وضعن حملهن إبان المسيرة، ولم تحدث خالل شهر ونصف أي وفاة.
سؤال : ألم يبد بعض الزعماء األجانب انزعاجا من مبادرتكم؟
جواب : على الصعيد الرسمي لم يكلف أي منهم نفسه عناء استفساري. على أنه إذا كان علينا خوض حرب فتلك قضية ترجع إلينا. وبما أن المغرب كان معبأ أحسن تعبئة، فإن طرح سؤال من أي كان سيبدو سخيفا، كما أنه لم يحصل استفساري لمعرفة وجهة نظري من أي رئيس أجنبي. لقد انهمكنا في إعداد األغطية والمواد الغذائية، واألدوية الالزمة لثالثمائة وخمسين ألف شخص، كما اشترينا لهم خزانات مطاطية لحفظ الماء حتى ال يعانون من أي نقص فيه. ولم يحدث في أي وقت من األوقات أن عرفت األسواق خصاصا بسبب عدم التمكن من نقل الطماطم أو اللحوم مثال. وكنت أنام قليال، لكنني كنت أشعر بحيوية ونشاط، ربما لم أحس بهما من ذي قبل. لقد كنت فخورا بشعبي. كما كنت في نفس الوقت أعي جيدا أنه لو سارت األمور على خالف ما كنت أتمناه لكان ذلك بمثابة كارثة أتحمل تبعتها وحدي.
سؤال : على أي شيء كنتم تراهنون وأنتم تعلنون عن هذه المسيرة؟
جواب : كان األمر يتعلق برهان سيكولوجي يتوقف عليه كل شيء، حيث كنت أعرف أن فرانكو وحاشيته عسكريون، فإذا تصرفوا كعسكريين حقيقيين فما كنت أخالهم يطلقون النار على ثالثمائة وخمسين ألف مدني عزل. سؤال: ولو حدث أن وقعت مواجهات ومذابح؟ جواب: في عديد من الخطب التي وجهتها آنذاك، كنت أحذر المشاركين في المسيرة من " أننا قد نجد حقول ألغام ومصفحات، وقد نواجه مدفعيات فوهاتها مصوبة نحونا". فخالل الشهرين اللذين كنت أهيئ فيهما للمسيرة الخضراء كان هاجس واحد هو شغلي الشاغل وكان يتمثل في ذلك السؤال الذي ما فتئت أردده على مسامع جميع محاوري" ترى هل سيشبه الشباب المغربي المدلل اآلن بمظاهر التقدم، آبائهم؟ وهل ستكون لهم كامل الشجاعة لمواجهة الدبابات؟ وكان كل من طرحت عليه السؤال يرد قائال، " أن الشباب المغربي لم يتغير، إنه من طينة نفس الشعب".
سؤل: هل كان خوان كارلوس مشاركا في المفاوضات؟
جواب : كال، لم يكن في الواقع مشاركا، فقد تم إيفاده إلى جزر الخالدات لكبح جماح العسكريين، وإفهامهم أن األمر يتعلق بقضية اتخذت منحى سياسيا وليس عسكريا. وكان الجنرال فالديز قائد القوات اإلسبانية بالصحراء رجال في غاية االنضباط، كما أنه لم تصدر عن إذاعتنا الوطنية - طيلة المدة التي استغرقتها المسيرة- ولو كلمة واحدة نابية تجاه إسبانيا، وما كنا نردده باستمرار هو" أن محكمة العدل الدولية قد أنصفتنا". سؤال : في أي وقت بالضبط قررتم وقف المسيرة؟ جواب : في الوقت الذي أدركت فيه جميع األطراف المعنية أن يستحين أن تحل الدبلوماسية محل الوجود بالصحراء، ولم يكن إرسال المغاربة في مسيرة إلى الصحراء، باألمر األكثر صعوبة، بل كان األكثر من ذلك هو التأكد من أنهم سيعودون بانتظام عندما يتلقون األمر بذلك وهم مقتنعون أن النصر كان حليفهم، وذلك ما حصل بالفعل، وبهذا الخصوص قد روى لي الملك خوان كارلوس فيما بعد واقعة طريفة، هي أن صحفيا إسبانيا استقل سيارة أجرة من مدينة أكادير لإللتحاق بالمسيرة الخضراء في طرفاية، وعلى بعد مائة كيلومتر من أكادير سمع السائق خطابي الذي أعلنت فيه أن المسيرة قد أدت مهمتها، وطلبت من المشاركين العودة، وتوقف السائق على الفور وعاد على أعقابه. فسأله الصحفي وهو في غاية االندهاش، ترى ماذا دهاك؟ فأجابه السائق: "لقد أمر ملكنا بالعودة وعلي أن أمتثل ألمر سيدنا".
سؤال: كيف كان رد فعل بومدين تجاه المسيرة الخضراء؟
جواب: لقد أوفدت له الحاج محمد باحنيني وزير الدولة األمين العام للحكومة الذي كان صديقي وأستاذي والذي كان بحق ذاكرة المغرب، وبعد عودته، روى لي أن بومدين في حالة غير طبيعية، حيث بادره القول، " إنها حماقة أن تجمع 012 ألف شخص ليس أمرا هينا، إذ تصعب السيطرة على الوضع، السيما وأن ذلك يحدث على حدود بالدي وأنا معني بهذا األمر". والواقع أن بومدين كان يبحث عن أي سبب يمكنه من الزعم أنه معني بالموضوع. فهو لم يخف محاولته هاته.. إذ كان يردد مطالبته على الدوام بتقرير المصير، في فيتنام والكمبودج انطالقا من اقتناعه الراسخ، لذلك كان يرى أنه من الجور الصارخ أن ال يطالب بنفس الشيء للبوليساريو الذي كان يوجد على حدود الجزائر، إنه لغريب حقا أن يقول بومدين عن نفسه أنه مولع بالديمقراطية ومناصر لتطبيق مبدأ تقرير المصير.
سؤال : ومتى التقيتم به بعد المسيرة الخضراء؟
جواب : لم أره قط منذ المسيرة الخضراء. ففي سنة 5797 ،كنا قد اتفقنا على االلتقاء في سرية تامة في بلجيكا، وأشعرنا بذلك السيد"راس"، رئيس المخابرات البلجيكية الذي بحث الموضوع مع العاهل البلجيكي والوزير األول ووزير العدل، وقد هيأ البلجيكيون قصرين متجاورين، واقترح علي بومدين تاريخ 52 يوليو، فقلت له "إنني في تاسع وعاشر يوليو أكون دائما منشغال بعيد الشباب، أال نلتقي بعد بضعة أيام من ذلك؟ إال أنه بعدد أيام قليلة سقط طريح الفراش ونقل إلى موسكو، تم أعيد إلى الجزائر وهو في غيبوبة تامة، إلى أن وافاه األجل المحتوم، وعلى أية حال كان من األفضل عدم التقائنا.
سؤال: لماذا؟
جواب: ألنه كان سيسفر عن لقائنا بدون شك، اتفاق وتسوية لقضية الصحراء، وكان سيتوقف عن أي تدخل في شؤوننا الداخلية، لكنه لم يكن ليقبل مطلقا أن نسترد النصف اآلخر من الصحراء، الذي كان يريده إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. غير أن هذا الجزء من الصحراء رد إلينا بعد شهر من ذلك، وبالضبط في 57 غشت 5797 .وإذ ذاك تنفست الصعداء وقلت مع نفسي" من حسن الحظ أن اللقاء على انفراد مع بومدين لم يتم"، وكان جليا أنه لم يكن في مقدور الموريتانيين، الحفاظ على الجزء الجنوبي من الصحراء، وإنهم كانوا سيتخلون عنه ذات يوم. كما كان باديا للعيان أيضا أن للبوليساريو سيستغل الفرصة لينقض على الداخلة، وجميع ضواحيها. لقد فطنت لذلك، وقمت أنا ووزيري في الداخلية إدريس البصري واألركان العامة للقوات المسلحة الملكية بإعداد إدارة محلية انكبت على دراسة الخرائط الجغرافية. وذات صباح باكر، وبعد أن غادر آخر جندي موريتاني برج المراقبة بالداخلة، أقمت جسرا جويا تم عن طريقه نقل جميع السلطات العسكرية والمدنية والقضائية ومسؤولي األشغال العمومية.
سؤال: أود أن أعود مرة أخرى إلى المسيرة الخضراء، فكيف يشعر المرء أن أمرا هاما يتم اإلعداد له وأن هناك فرصة سانحة يجب انتهازها؟
جواب: إن األمر شبيه إلى حد ما بحالة الطقس شريطة أن ال يعيش المرء في بلد ذي فصلين فقط. حيث يكون نصف السنة شتاءا والنصف اآلخر صيفا. وحيث يحس المرء بقرب تغير الجو، وعندما تتلبد السماء يتعين عليه اتخاذ قرار إما باللجوء إلى أقرب ميناء لإلحتماء به أو مواصلة اإلبحار مع تالفي الصخور، والواقع أنني استشعرت تلك األشياء، لكن ال أستطيع أن أشرح لكم ذلك بمزيد من التفصيل.
سؤال: ومع ذلك في سنة 5797 ،و5782 ،كان يبدو أن الملف المغربي حول الصحراء لم يكن بالشكل المطلوب على الصعيد الدبلوماسي؟
جواب: أبدا فال يجب أن نغفل أن العالم كان آنذاك مقسما إلى مجموعتين، فهناك الغربيون الذين كانوا ينتمون إلى ناد، وهناك اإلتحاد السوفياتي ومن يدور في كنفه الذين يكونون معسكرا. ففي النادي ليس هناك تضامن مطلق سواء على المستوى األفقي والعمودي أما في المعسكر، فإن التضامن يكون فيه مطلقا عن كل قيد. ومن هذا المنطلق، فليس صحيحا أن الملف المغربي حول الصحراء لم يكن مسيرا بالشكل المطلوب، كل ما هنالك أن الملف الجزائري كانت تتكفل به أزيد من ستون دولة. ففي كل مرة كان يذهب فيها مبعوث جزائري إلى إحدى العواصم الخاضعة لنفوذ اإلتحاد السوفياتي كان يحصل على كل ما يطلبه من دعم لوجيستيكي سوفياتي. أما بالنسبة للمغرب فلم يكن يعتمد على بلد واحد أو بلدين من النادي الغربي وحتى هذا االعتماد كان مرتبطا بمزاج ما، في حين أن الجزائر كانت تتلقى السند من جميع الدول التي تدو ر في فلك االتحاد السوفياتي، بما في ذلك سفاراتها وشبكاتها اإلعالمية.
سؤال : وعندما تم سنة 5797 اعتراف خمس وثالثين دولة بالجمهورية الصحراوية، ألم يكن ذلك برهانا على كفاءة المعسكر السوفياتي؟
جواب : بكل تأكيد، وسأقدم لكم مثاال آخر. لقد ذهبت في زيارة رسمية لإلتحاد السوفياتي، وكنت أعرف معرفة جيدة الوزير األول السيد أليكسي كوسيغين، الذي أعتبره من أبرز الشخصيات التي قابلتها، وقد كان ملما بملفاته أكثر بكثير من بريجنيف، وكان يتميز بسعة صدر مدهشة. وهنا أسوق لكم رواية : فقد كنت أتناول معه طعام الغذاء بحضور بريجنيف وبودغورني، وحين حمل إلى كبير الخدم الشاي الذي أعده بالنعناع مال نحوي كوسيغين وهمس في أذني: "كيف تودون تقديم الشاي لهذين الفالحين الروسيين، وهما ال يعرفان إطالقا حتى ما تعنيه كلمة شاي. دعهما يحتسيان الفودكا". وخالل مقامي بموسكو حاولت التوصل إلى اتفاق بشأن إحدى القضايا، ذلك أن المغرب كان يستورد 82 أو 72 في المائة من مادة السكر وكان يتعين عليه فضال عن ذلك تسديد ثمن هذه المادة بالدوالر، فتقدمت باإلقتراح التالي إلى كوسيغين: أن االتحاد السوفياتي ينتج السكر، فلماذا ال نبرم اتفاقا بهذا الشأن، بحيث يستورد المغرب السكر من االتحاد السوفياتي، ويستورد االتحاد السوفياتي من المغرب الحوامض والفوسفاط اللذين هو في أمس الحاجة إليهما، نظرا ألنه ال يستطيع استغالل منتوجاته بحكم ما يعرفه طيلة نصف سنة من صقيع وجليد، فرحب كوسيغين بالفكرة أيما ترحاب ألنه وجدها فكرة ممتازة. إال أنه عاد لمقابلتي بعد الزوال وهو في غاية الحرج والضيق قائال لي :" لقد أبلغتني المصالح التابعة لي أن هناك بندا في االتفاقية المبرمة مع كوبا يمنعنا بتاتا من مضايقة أسواق هفانا، وهنا أيضا يطفو المعسكر على السطح، فكوسيغين كان يعرف جيدا أنه سيخسر الكثير بعدم إبرام هذه الصفقة معي، لكن لم تكن بيده حيلة، إذ اليستطيع مضايقة كوبا.
سؤال : هل سبق أن التقيتم بكاسترو؟
جواب : في سنة 5707 ،وبعد قضية الصواريخ جاء كاسترو إلى األمم المتحدة، ، حيث كنت موجودا ، فاستمعت له وهو يوجه السب والشتم إلى الواليات المتحدة األمريكية طيلة أربع ساعات. وكانت الخطوط الجوية السوفياتية تؤمن الرحالت بين موسكو وهافانا تتوقف في الرباط، وذات يوم أشعرت أن كاسترو يود وهو في طريقه إلى موسكو، االلتقاء بي أثناء توقفه بالرباط. وفعال اجتمعنا لمدة ساعتين، وتناولنا طعام الفطور معا. وكان يرتدي الزي العسكري دون نياشين، وكان بسيكاره المعهود يتمتع بكياسة وثقافة مدهشتين. سؤال : وماهي المواضيع التي تطرقتما إليها؟ جواب: تحدثنا عن إختالفنا االيديولوجي. ولقد ترك لدي االنطباع بأنه ليس ماركسيا متشبعا بالفكر الماركسي فحسب، ولكن أيضا كان رجال مصمما على عدم االقتناع سوى برأيه، مصما أذنيه عن كل المحاوالت، وأعتقد أنه ذهب بعيدا في تعهداته، وكان يدرك أن اإلخالل باإللتزامات يكون أحيانا أكثر أذى من مجرد التمسك باختيار معين. ومهما يكن األمر ، ولما أنه كان يستعصي علي أن أجعل منه مسلما غير شيوعي ملحد، فقد أضعنا وقتنا، ولكن بذكاء.
سؤال : لقد كانت وضعية المغرب بالصحراء سنتي 5797 و 5782 صعبة للغاية وهو يتعرض لهجومات عنيفة؟
جواب: أن ما كان يفقد األمور توازنها هو أننا لم نكن أبدا نرد على كل هجوم مكثف بهجوم مضاد، بحيث حرصت على الدوام على احترام أراضي الدول المجاورة، ولو فعلنا خالف ذلك لعمت الحرب إفريقيا الشمالية.
سؤال : كيف تفسرون الموقف المتصلب لخلف بومدين الشادلي بن جديد؟
جواب :يتعين في البداية العودة لظروف الجزائر آنذاك، فبعد وفاة بومدين كان هناك خمسة مرشحين لخالفته، وفي آخر لحظة قرر الجيش من يخلف بومدين يجب أن يكون عسكريا أوال، وفي نفس الوقت متوفرا على أسمى وأقدم رتبة عسكرية، فتوجهوا إلى الشاذلي الذي لم يكن له أي طموح، وكان شديد الحرص على اإلقامة بوهران، وأفهموه أن مستقبل الجزائر واستقرارها رهينان بقبوله تولي السلطة، وفي الحقيقة فقد أجبر على تولي رئاسة الجزائر.
سؤال : ومن كانت له اليد الطولى على السياسة الجزائرية : هل العسكريون أم المدنيون؟
جواب: لقد أحدث المدنيون متاعب لنا أكثر مما خلقها لنا العسكريون. فقد أبان الحزب الوحيد في الجزائر عن تصلب يفوق بكثير تصلب القادة العسكريين، فهؤالء كانوا سيختارون طريق التراضي، لكن رأي الحزب هو الذي تغلب في األخير.
سؤال : رغم ما كان للجيش من وزن؟
جواب : ال تنسوا أن حزب جبهة التحرير الوطني، كان آنذاك في أوجه، وكانت سياسة التصنيع المفرطة، تبدو وكأنها حققت نجاحها في مجال إحداث مناصب الشغل، كما أن العملة الصعبة كانت تتدفق على البالد بسبب ارتفاع أسعار البترول، وأمام تماسك الحزب، أبى العسكريون إحداث مشكل للدخول في نوع من اإلنشقاق، غير أنه في سنة 5775 ،وبعد أحداث الجزائر العاصمة انسحب الجيش من الحزب الوحيد، وذلك بمبادرة من الرئيس الشاذلي بنجديد. متى تم أول لقاء بينكم وبين الشاذلي؟ جواب : بمحض الصدفة، وكان ذلك بمكة المكرمة بمناسبة القمة اإلسالمية بالطائف. فجميع رؤساء الدول والوفود قرروا أداء مناسك العمرة. والطواف حول الكعبة المشرفة. وبما أنني كنت أديت هذه المناسك، فقد صعدت إلى قلب الكعبة للتعبد، بينما كان اآلخرون يطوفون حولها، وفي الوقت الذي خرجت فيه من الكعبة المشرفة، صادفت الشاذلي أمام الباب، ووجدنا أنفسنا مضطرين لتبادل االبتسامة، تم تصافحنا. والحقيقة أن القدرة اإللهية شاءت أن نلتقي. سؤال : وماذا جرى بعد ذلك؟ جواب : لقد التقيت مع الشاذلي بعد بضع سنوات بمبادرة من الملك فهد. وتم اللقاء على الحدود قرب وجدة، وجاء لتناول طعام الغذاء معي تحت خيمتي، وتباحثنا طويال لكن دون جدوى، وترك لدي انطباعا بأنه ال يؤذي، وأنه طيب وليس فظا وال مغرورا. وكنت على علم أنه سبق للشاذلي أن ذهب مرارا لمقابلة بومدين ليقول له : " إنك لست على صواب في قضية الصحراء، وأنا ضد ما تفعله"، غير أنه لألسف ترك لدي انطباعا بأنه قد جرفه تيار نظام الحزب الوحيد الذي كان الجيش ينتمي إليه آنذاك.
سؤال : ميزتم قبل قليل بين النادي والمعسكر، من هم أعضاء النادي الذين كانوا أكثر تحفظا تجاه المغرب في قضية الصحراء؟
جواب : لقد كان اإلسبان األكثر تحفظا، وقد أساؤوا إلينا كثيرا ، ومارسوا لعبة مزدوجة ، إلى أن جاء االشتراكيون إلى الحكم فأبانوا عن قدر كبير من الواقعية، واآلن فإن اتفاقية صداقة تربطنا، ونحن نعيش في صفاء تام.
سؤال : وماذا كان موقف "خوان كارلوس؟
جواب : يحق لي أن أفتخر وأعتز بأنني كنت أول من كاتبه بصفته ملكا، وعالقتنا جد حميمة، ونتخاطب بصيغة المفرد، وقد اعتدنا أن يتصل بي هاتفيا أو أتصل أنا به كلما حدث مشكل. لم تكن له سلطة تغيير مجرى سياسة حكومته.، لكنه اعتبر على الدوام أن الصحراء مغربية، وأن هناك بلدا يتعين إرجاعه إليه، هو المغرب دون غيره. كما أن العديد من العسكريين الشباب المستنيرين كانوا يشاطرون خوان كارلوس هذا الرأي وجميعهم ينتمون للجيل الجديد.
الملك الحسن الثاني: لهذا وصفني هيكل بـ "الطاغية"
لقد صرحتم مباشرة بعد أحداث الصخيرات "بأن هذه الأحداث لم تكن بالتأكيد أحداثا تلقائية"؟
لقد انساق المذبوح وراء المصريين، ومعلوم أن الجرائد المصرية تصل إلى المغرب بعد ست ساعات من طبعها. وفي يوم 10 يوليوز، وبعد سويعات فقط على المحاولة الانقلابية، كتبت صحيفة"الأهرام" القاهرية واسعة الانتشار على خمسة أعمدة، وتحت عنوان بارز: "مقتل الطاغية الحسن الثاني. انتهى الدكتاتور". وتطرق المقال إلى انتصار "القوى الحية والوطنية بالجيش". لقد أخطأوا التوقيت فخانهم التقدير، وساهم هذا الموقف الغريب في إضفاء نوع من الفتور على علاقاتنا مع القاهرة.
لقد كانت "الأهرام" جريدة حكومية، مما عقد الأمور أكثر. هل بحثتم الأمر مع السادات؟
إن أنور السادات كان صديقا وفيا مخلص الود. ولم يكن له أبدا مظهر قاتل أو متآمر، فهذا ليس من شيمه. وعندما تحدثنا في الموضوع قال لي: "تعلمون أن حسنين هيكل، مدير جريدة "الأهرام"، كان أحد رجالات جمال عبد الناصر. وكتب عني أنا أيضا الشيء الكثير، ولقد تخلصت منه لما سنحت لي الفرصة لذلك".
والتقيت في ما بعد بـ "حسنين هيكل"، وتباحثنا طويلا في الموضوع، ولقد وعدته بألا أبوح أبدا بما دار بيننا.
لماذا؟
لن أبوح بذلك أبدا.
ولكن في نظركم ما هو مصدر المساندة التي تلقاها المتمردون من الجانب المصري؟
لم أسع أبدا إلى البحث في عمق المشكل، لأنه إذا كان هناك شخص أبعد ما يكون عن الإيديولوجيا الناصرية، وحتى القومية العربية، فهو المذبوح، فأين هي نقطة الالتقاء إذن؟ إني لم أسع أبدا إلى معرفة ذلك، إذ يكون أحيانا من الأفضل عدم سبر غور الأشياء.
لماذا ترددون غالبا "من الأفضل ألا يعرف المرء"؟
لأنني أعتقد أن من الأمور أشياء أكثر أهمية يتعين تعميقها والانكباب عليها بدلا من أن أتصرف كحافر آبار التنقيب عما في أعماقها، وهذا أولا ليس من شيمي، وثانيا ذلك يجعلني أضيع الوقت، وأخيرا فإن المسؤولية الملقاة على عاتقي تحتم علي ستر عورات الآخرين عوض الكشف عنها، إنها إحدى تعاليم القرآن الكريم.
تابع القرائة من هنا:
تحميل كتاب «ذاكرة ملك» PDF من هنا:
وبلغت عناية ملوك المغرب الأماجد بالتاريخ جمعا وتدوينا إلى حد إحداث منصب المؤرخ الرسمي للمملكة، تنحصر مهمته في تسجيل جميع الأحداث الوطنية وعلاقتها بالوقائع العربية والإسلامية والأجنبية.
ويعد جلالة الملك الحسن الثاني – رحمه الله – من أكثر ملوك المغرب عناية بالتاريخ الوطني والقومي خاصة، والعالمي عامة. ويمكن إرجاع ذلك إلى عدة عوامل ذاتية وموضوعية، تتجلى الأولى في الميل إلى دراسته، والتخصص فيه بجانب العلوم الأخرى، وإيثار البحث الأكاديمي في مجاله الفسيح، وقد أكد – رحمه الله – ذلك بقوله: (1) ص: 2-3.
«فحينما أحرزت شهادة الباكالوريا ذهبت عند والدي لأفسر له أنني تحدوني الرغبة في دراسة التاريخ».(2)ص: 177.
وكان والده السلطان محمد الخامس – طيب الله ثراه – خير مشجع له على الاهتمام بالتاريخ، وتعميق الدراسة فيه:
«والحمد لله على أن أبي كان شيدي الحرص على أن أتابع دراسات معمقة في الأدب، وفي التاريخ خاصة».(3) ص: 12.
وتنحصر العوامل الموضوعية لهذه العناية في إدراك جلالته –رحمه الله – لأهمية التاريخ في حياة الأمة، حاضرها ومستقبلها، فهو الذي يثبت هويتها، ويوحد كلمتها، ويخلد مآثرها وأمجادها، ويرقى بها إلى مدارج العلا والسناء.
ويشهد كتاب جلالته القيم: «ذاكرة ملك» على هذا الاهتمام، ويعكس بكل جلاء تأصل التاريخ في شخصيته الموسوعية التي جمعت فأوعت: فالكتاب ينضج بمعطيات تاريخية هامة، تعرفنا بأصالة الأمة المغربية وبوحدتها الروحية بعد انصهارا في بوتقة الإسلام، يقول جلالته:
«تم التمازج العرقي بشكل عام بين البرابرة المنحدرين من اليمن، وعرب قريش الوافدين من سوريا ومصر وليبيا، فهؤلاء الأشخاص تزاوجوا وكونوا مجتمعا واحدا».(4) ص: 148.
كما تعرفنا على دواعي قدوم جد الأشراف العلويين وملوكهم الأماجد من ينبوع النخل بمكة المكرمة إلى بلاد المغرب الكريمة بكل أمانة وموضوعية:
«إننا لم نأت إلى هذا البلد لنستولي على الحكم، وإنما أتيتا لأنه طلب منا ذلك. ولما كانت واحات النخيل في صحرائنا تافيلالت تتعرض للإبادة من لدن حشرة «الفطر» التي كانت تنخرها، فقد ظن الناس أن وجود واحد من آل الرسول سيقيهم سوء هذا البلاء. وشاءت معجزة التاريخ أن يصادف وصول جدي الحسن إلى المغرب السنة التي نجت فيها تلك الواحات من الهلاك فمكثنا هنا».(5) ص: 35.
واندمج أجدادا الأشراف العلويين الأكارم في صلب المجتمع المغربي الأصيل بالتزواج والمصاهرة وصاروا عضوا نشطا في كيانه المتعاضد: أوفياء لملوكه، مخلصين لعرشه المجيد، ذائدين عن حياضه بالنفس والنفيس:
«لقد عاش أجدادي أربعة قرون في المغرب، كرعايا لمختلف الأسر الملكية، لقد ولدوا هنا، وأدوا الضرائب، وحاربوا حين كان لا مناص من الحرب خصوصا في الأندلس، بل في عهد بني الأحمر التمس أهل الأندلس من جدي مولاي علي الشريف أن يتولى قيادة جيشهم، فكان جوابه، وهو محفوظ عندنا:
«دعوني وشأني، لقد جئت للجهاد ضد الكفار تلبية لنداء السلطان أمير المؤمنين، ولقد أديت الرسالة، والآن سأعود لدياري»
ولم يتقلد الأشراف العلويون زمام أمر هذه البلاد السعيدة الآمنة إلا بعد أن دب الضعف في دولة السعديين، وأصبحت قاب قوسين أو أدنى، بحيث لم تعد تقوى على مواجهة الأعداء الألداء، ورد اعتداءاتهم الغاشمة على سواحله الشاسعة الأطراف، فكان استبدال هؤلاء الأشراف العلويين الأشاوس بملوك هذه الدولة المنهارة والمغلوبة على أمرها قدرا مقدورا، لتعود للدولة المغربية هيبتها ومناعتها، وترجع كسالف عهدها الحصن الذي تتكسر على عتباته أطماع العداة، وتتلاشى أحلامهم الواهية، ويحلل جلالته – أيده الله – ذلك بفكرة الثاقب قائلا:
«وقد كانت تنحية الملوك السعديين من لدن طائفة من العلماء والأعيان الذين توجهوا إلى تافيلالت باحثين عن جدي وقالوا له: (إن الملوك السعديين تخلوا عن الدفاع عن التراب الوطني وإن لأجانب استقروا على طول الساحل الأطلسي، والآن عليكم أن تهبوا للدفاع عن حوزة البلاد)».(7) ص: 55 – 56.
وقد كانت الاستجابة لنداء الواجب بداية انبلاج فجر الدولة العلوية الشريفة التي واصلت مسيرة المجد الأثيل، والإشعاع الحضاري، ووطدت علاقات المغرب بدول العالم سياسيا واقتصاديا كفرنسا التي قال عنها جلالته:
«فغالبا ما يوجد في تاريخ المغرب وفرنسا نقط التقاء، ولاسيما على عهد الدولة العلوية، أي من بداية عهد لويس الثالث عشر حسب التاريخ الفرنسي».(8) ص: 177.
وحرص الملوك العلويون على تنمية هذه العلاقات وتطويرها، حيث بلغت في عهد السلطان المعظم مولاي إسماعيل – طيب الله ثراه – أوجها، وهو ما يبينه جلالته بقوله:
«وكان لجدي مولاي إسماعيل الذي كان معاصرا لـ: (لويس الرابع عشر)، لقد كانا يتوليان السلطة في نفس الحقبة تقريبا، ودام عهد حكميهما نفس المدة، لقد قال مولاي إسماعيل ذات يوم مخاطبا جلساءه: «يتعين على أن أجد حليفا لي في أوربا». وأخذ يستعرض مختلف الأنظمة الأوربية القائمة، وكانت البداية من انجلترا حيث قال: «إن بلدا لا يحكم فيه ملك ويمكن أن يعتلي فيه امرأة العرش لا يهمني في شيء».
كما استبعد أيضا إسبانيا وكنا مع ذلك على اتصال معها، ودي أحيانا، ومطبوع بالنزاعات أحيانا أخرى، لقد استبعدها لأنه كان يرى ملكية خاضعة لسلطة الكنيسة لا تترك للملك حرية ممارسة الحكم، وتوقف في الختام عند فرنسا فقال عنها: «إني أود أن أربط علاقات مع لويس الرابع عشر، لأنه يحكم بلاده فعلا». وأخذ يعدد الأسباب الموضوعية التي جعلته يختار ويفضل إقامة حلف فرنسي مغربي إلى حد أنه طلب يد الأميرة (دوكونتي).
ولم تسفر خطبة المولى إسماعيل للأميرة الفرنسية عن نيل المراد، وتحقيق البغية، برغم المساعي التي قام بها السفير المغربي لدى والدها الملك لويس الرابع عشر ويوضح جلالته –نصره الله – ذلك بقوله:
«لقد رد الفرنسيون بقولهم: «طلبكم هذا غير ممكن تلبيته، فأنتم تأخذون بنظام تعدد الزوجات، وستضيع الأميرة المسكينة وسط مجموعة النساء». وأمام هذه البراهين قال سفير المغرب في فرنسا ابن عائشة لـ: (لويس الرابع عشر) تحديدا: (يا جلالة الملك لقد جئنا نطلب من جلالتكم يد الأميرة لأنها تتوفر فيها الخصال والصفات التي تفتقدها النساء الأخريات)». (10) ص: 178.
إلى هذا المستوى بلغت علاقات المغرب الديبلوماسية بفرنسا في عهد هذا السلطان الهمام، وهو ما يدل على تفتحه على العالم الخارجي، وتسامحه الديني مع الدولة الأجنبية عملا بقول الله تعالى في محكم كتابه:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير).(11) سورة الحجرات – الآية: 13.
ووقف الملوك العلويين من قضايا الحرية والاستقلال موقف التأييد والمناصرة، ومن الطريف في هذا الصدد ذكر ما نبه عليه جلالته بقوله:
«ينبغي أن لا يغيب عن الذهن أننا أول بلد في العالم اعترف بالولايات المتحدة الأمريكية وذلك قبل مائتي عام».(12) ص: 6.
ويردف ذلك بقوله:
«وإن أول نزاع في حياتها الدولية كان مع ليبيا، في ذلك الوقت طلبت الولايات المتحدة من جدي محمد الثالث التدخل لدى المسؤولين الليبيين».(13) ص: 6.
وهكذا كان المغرب في هذا العهد المجيد يضطلع بمهمة رسول السلام في العالم، ممثلا بذلك الريادة في الصلاح والإصلاح.
وكانت علاقات المغرب الاقتصادية بالعالم الخارجي متميزة في كثير من العهود، حيث ازدهرت المبادلات التجارية وبلغت ذروتها مع بعض دوله كإيطاليا في عهد الدولة السعدية التي قال جلالته – نصره الله – عن أحد سلاطينها:
وتطلع المغاربة في عهد الدولة العلوية الشريفة إلى الحياة الدستورية، رغبة في إرساء دعائم القانون، ومسايرة روح العصر، حيث:
«تم التفكير منذ عهد المولى عبد العزيز وإبان الحماية في إعداد الدستور، لقد كانت هناك عدة مشاريع ما بين 1908 و1812، ولم يكن ذلك متناقضا مع القرآن الذي يأمر بالشورى، أي الاستشارة مع الآخرين». (16) ص: 57.
وتشع من «ذاكرة الملك» لجلالته – أيده الله – أنوار وهاجة تكشف عن تباشير الحركة الوطنية المباركة في مغرب الحرية:
«في سنة 1944 تم التعبير لأول مرة بواسطة عريضة عن المطالبة بالاستقلال، وقد أعقب ذلك قمع دموي قادة السفير (بيو) الذي كان آنذاك مقيما عاما بالمغرب، بينما كان الجنرال (لوكلير) والفرقة المصفحة الثانية مرابطين في تمارة بضواحي الرباط».(17) ص: 4.
وكانت مشاركة جلالته في هذه الحركة فعالة برغم حداثة سنه، معبرا بذلك عن إرادة الحرية، التي هي إرادة الشعب المغربي الشهم الباسل، وقد احتفظت دارته – حفظه الله – بذلك: «هناك تاريخ مضبوط ظل عالقا بذاكرتي، هو 29 يناير 1944، ففي ذلك اليوم اكتسح جمهور من المتظاهرين شوارع الرباط مرددين شعارات المطالبة بالاستقلال، وبلغني صدى هذه المظاهرات وأنا داخل المعهد المولوي، فتخطيت سوره، والتحقت بالمتظاهرين».(18) ص: 4.
وتمخضت هذه الحركة عن ضحايا في صفوف المناضلين، ومحاسبة عسيرة للأمير المولى الحسن – أيده الله – من طرف الإقامة العامة الفرنسية:
«وتطورت الأحداث إلى وضع مأساوي حيث قتل من قتل، أما بالنسبة لي فقد أحرج سلوكي هذا والدي، وذلك حين استنكرت الإقامة العامة الفرنسية ما قمت به، وأوفدت سلطات باريس «عقيدا» من أعضاء المكتب الثاني حيث أقام بالمغرب ثلاثة أسابيع للتحقيق في أنشطة الأمير مولاي الحسن ومشاعره المعادية لفرنسا».(19)ص: 4.
هذه شذارت ذهبية من تاريخ المغرب المجيد، جادت بها ذاكرة ملك المؤرخ مولاي الحسن الثاني – أبقاه الله ذخرا للبلاد والعباد – لتكون لجيلنا الصاعد نبراسا يستنير به في مسيرته العلمية والحضارية، وليعلم علم اليقين أن وطنه العزيز كان عبر عهوده الزاهرة دولة التاريخ المجيد والخالد.
وستظل «ذاكرة ملك» المأثرة الفكرية الحضارية مفخرة لأمتنا، تعتز بها في مثل هذه المناسبة الغالية التي تطالعنا فيها ذكرى ميلاد جلالته – حفظه الله بالسبع المثاني – والتي نخلد بها عيد الشباب، رمز الأمل الباسم لأمة المكارم والأمجاد.
فصل من كتاب "ذاكر ة ملك"، حول المسيرة الخضراء
سؤال: بالنسبة لقضية الصحراء، يبدو أنه كان هناك مستويان : النزاع مع إسبانيا من جهة، والمواجهة، مع الجزائر من جهة أخرى.
جواب: أجل، ففي ثالث مارس 5771 ،وبمناسبة عيد العرش استقبلت السيد صوليس مسؤول حزب الكتائب اإلسباني الذي جاء ليمثل الجنرال فرانكو في االحتفاالت، وقلت له يا سيد صوليس، أبلغ الجنرال أنه لو رفض فتح حوار معنا، فإنني سأبتليه بفيروس تقرير المصير في الصحراء، وسأطلب من األمم المتحدة تقرير المصير في هذا اإلقليم. وبما أننا لم نتلق أي رد على ذلك طرحنا رسميا في سبتمبر 5771 ،قضية تصفية االستعمار بالصحراء.
سؤال : وبضع سنوات بعد ذلك بعثتم برسالة شديدة اللهجة إلى الجنرال فرانكو ذهبتم فيها بعيدا إلى درجة التهديد بالتدخل العسكري.
جواب : أستغرب أن يكون قد صدر عني ذلك، فأنا أتذكر جيدا ما أتفوه به، وليس من طبعي أبدا أن أكون بهذا الوضوح عندما يتعلق األمر بتهديدات. فقد بعثت بالفعل خطابا إلى الجنرال فرانكو، وما زلت أحتفظ بمسودته، ألنني حررته بنفسي، فالخطاب في جوهره كان حقيقة قاسيا، ولكن كان مهذبا ولبقا في شكله، على كل حال فرانكو رجل مسن، وكان له تجاهنا بعض الود وإن لم يكن ذلك الود في مستوى ما كنا دائما نتوخاه، غير أن ذلك ليس بالسبب الذي يجعلنا غير مهذبين وغير لبقين معه.
سؤال: وهل لقيتموه بعد ذلك؟
جواب: بالضبط، وعند ذلك فقط أدركت لماذا أكد هتلر بعد أزيد من أربع ساعات من التفاوض معه- لكي يسمح للقوات األلمانية بعبور إسبانيا في اتجاهها إلى إفريقيا الشمالية- بأنه كان يفضل الذهاب عند طبيب أسنانه للعالج بدون بنج، على أن يذهب للتفاوض مع فرانكو، حيث أني لقيت هذا األخير سنة 5795 بمدريد عندما كنت أقوم بزيارة عمل، لقد كان إنسانا مهذبا للغاية، من األنصار المتحمسين جدا للنظام الملكي، كما كان يكن احتراما كبيرا للملوك، وكنت أول من تناول الكلمة محاوال أن أشرح لفرانكو أن مصلحة إسبانيا تكمن في أن يكون لها تعاون في المنطقة يطمئنها على الحماية االستراتيجية لجزر الخالدات ويضمن لها ذلك التعاون االقتصادي الذي تتطلع إليه، سواء تعلق األمر بالخيرات الموجودة على سطح األرض أو بما في باطنها، أو بثروات البحر. وبالنسبة للصحراء ذهبت حد اقتراح إقامة قواعد عسكرية بها في إطار اتفاق يتم بيننا على قدم المساواة. واسترسلت في الحديث ساعتين دون انقطاع، في حين التزم فرانكو طيلة هذه المدة بسكوت وهدوء مثيرين للدهشة. ولم يكن يتحرك في جسمه سوى العينين وأهدابهما . وبعد أن أنهيت عرضي استلقيت بظهري على الكرسي ، وأنا أقول مع نفسي : "اآلن وقد عرضت عليه وجهة نظري، فسأسمع لرده "، وقد أجابني عن ذل ذلك بعبارة واحدة هي " إن ما تطلبونه منا يا صاحب الجاللة عملية انتحارية، فال أنا وال إسبانيا مستعدان لذلك". هذا كل ما قاله . وبعد ثالث دقائق أضاف، " إذا سمحتم هيا لتناول طعام الغداء، لقد أعددت لكم إقامة بالجناح الشمالي للقصر، فهل تودون غسل يديكم؟ وفعال نهضنا. والحقيقة أنني ال أنسى هذه االزدواجية في معاملة فرانكو لي. فقد أفضت في عرض وجهة نظري حوالي ساعتين، فيما كان رده في منتهى اإليجاز.كما أن رفضه القتراحاتي لم يمنعه من أن يكون معي في غاية الود واللطف طيلة مدة إقامتي بإسبانيا. وقد تجاذبنا أطراف الحديث لفترة طويلة، كما ذهبنا للقنص معا، لكنه ظل على موقفه ولم يتزعزع عنه قيد أنملة.
سؤال : وما هو االنطباع الذي خرجتم به من لقائكم مع فرانكو؟
جواب : لقد خرجت بانطباع أولي أال وهو وجود هوة بين جيلين ترتب عنها عدم التفاهم في التحليل. كما أدركت أنه كانت تخونه القدرة على استشفاف المستقبل. إن األمر في ميدان السياسة شبيه إلى حد ما بتصمصم "بيغ بن"، إذ يتعين القيام بقفزة أنطولوجية كبرى، )كما يقول كانط(، لكني أدركت أن سن فرانكو ال يتيح القيام بهذا المجهود، وآنذاك قدرت مدى الخطورة التي قد يأخذها تطور األحداث بين إسبانيا والمغرب. وعدت إلى بلدي قلقا جدا وأنا أتضرع إلى الباري " يارب قنا شر بعضنا البعض، وجنبنا أية مواجهة بيننا" ذلك أني كنت واثقا من أن الحوار أصبح مستحيال.
سؤال: لكنه مع ذلك تم اإلبقاء على االتصاالت والمفاوضات؟
جواب: لقد جاء السيد لوبيز برافو وزير الشؤون الخارجية اإلسباني لزيارتي، ثالث مرات، واكتشفت في النهاية أنه إنما كان يراوغ فقط وأنه يطعننا من الخلف، وفي المرة األخيرة التي استقبلته فيها قلت له : " ياسيد برافو، تعهدوا لي بأنكم لن تمنحوا االستقالل الذاتي للصحراء. ورغم أنني سأبدو صلفا، فأنا مستعد ألن أفضل مرة أخرى استمرار االحتالل اإلسباني- إلى أن نتوصل إلى اتفاق ) ألن هذا اإلقليم جزء من المملكة(، على أن أراكم تسلمونه آلخرين"، فرد السيد برافو"، بالطبع اطمئنوا فأنا أعدكم وسأبلغ فرانكو بذلك". واكتشفت فيما بعد أنه في الوقت نفسه يتفاوض مع الجزائر، بشأن صفقة غاز عن طريق وساطة شركة "ماتيسا" التي كانت في ملكية أخيه، الذي كان وراء أكبر فضيحة مالية عرفتها إسبانيا، وباختصار وجدت نفسي في وضعية ال يخرج منها إال من كان بارعا في الكذب.
سؤال : لقد كانت الصحراء بمثابة مباراة غريبة األطوار في الشطرنج مع بومديان.
جواب : إن تكويني القانوني علمني أنه على المرء أن يتحلى دائما بحسن النية ، فبكل صراحة لم أكن أعتقد أبدا أنني أمام محاور ذي شخصية مزدوجة، فقد كان بومدين يظن أنني أوقعت به ، ففي سنة 5791 ،كنا مجتمعين في أكادير وبمعيتنا الرئيس الموريتاني ولد داده، والحقيقة أنني لم أكن مرتاحا ، فحدسي كان ينبئني بأن هناك تواطؤا ما يدبر في الخفاء، ومكثنا يومين وليلة، وفي المساء قلت لضيفي، لقد ضحيت بالكثير من أجل إقامة عالقات صداقة مع بلديكما، وتوخيت من ربط هذه الصداقة ضمان استقرار المغرب والمنطقة، وعملت على نسج خيوط التعاون بين دولنا الثالث، فإذا كان من شأن قضية الصحراء أن تحدث شرخا في هذا النسيج القائم بيننا، فأقترح حفاظا على هذه الصداقة- أن ينكب كل واحد منا على الشؤون الخاصة لبالده، دون أن ينخر مشكل الصحراء جسم هذا الثالثي. واعتقد بومدين أن كالمي كان موجها إليه. وفي المساء ونحن على مائدة العشاء بدا بومدين مقطب الجبين. فانحنيت اتجاهه بكل لطف وهمست في أذنه " لماذا يبدو على محياكم هذا العبوس. إنكم ترددون أينما حللتم وارتحلتم في شتى المناسبات أن ال أطماع لكم في الصحراء. وإذا كان منا من يتعين عليه أن يحس بالحرج فهو صديقنا الموريتاني الذي يطالب بهذا اإلقليم. خذوا إذن راحتكم وابتسموا وال تستاؤوا من أقوالي. فأجاب : " ال ال، فأنا ال أشعر أبدا أنكم قصدتموني بكالمكم"، ثم انتقل بما عرف عنه من تملص إلى موضوع آخر. لكنني أحسست أن الرجل انقبض كما تنكمش المحارة عندما تصب عليها نقطة من حامض الليمون.
سؤال : في يوليو 5791 ،قرر اإلسبان قبول نقل السيادة للصحراء، كيف كان رد فعلكم؟ جواب: لقد احتج المغرب على ذلك وعرضنا القضية على محكمة العدل الدولية بالهاي ووجدت إسبانيا نفسها مضطرة النتظار الرأي االستشاري للمحكمة. سؤال: واصلت المحكمة النظر في القضية حتى نهاية شهر غشت 5791 ،وأصدرت رأيها في 57 أكتوبر، فماذا فعلتم في غضون ذلك؟
جواب: في 12 غشت كان علي أن ألقي خطابا بمناسبة ذكرى الملك والشعب، وهي الذكرى التي تخلد تاريخ نفي األسرة الملكية. وعشية ذلك اليوم، كنت أتساءل مع نفسي: "ترى ماذا عساي أن أقول في هذا الخطاب؟ وفي المساء وبعد أن أديت صالة العشاء، أخلدت إلى النوم، فاستيقظت فجأة في منتصف الليل، تراودني فكرة نفذت نفوذ السهم إلى ذهني وهي: "لقد رأيت آالف األشخاص يتظاهرون في جميع المدن الكبرى مطالبين باستعادة الصحراء، فلماذا إذن ال ننظم تجمهرا سلميا ضخما يأخذ شكل مسيرة؟ وهنا أحسست أني قد تحررت من عبء ثقيل للغاية. وقد اكتفيت في خطابي في اليوم الموالي بالتطرق لبعض القضايا العامة. إثر ذلك استدعيت وزير التجارة ووزير المالية وقلت لهما: "إن شهر رمضان قد يكون قاسيا، إذ المحاصيل الزراعية كانت متوسطة، فهل يمكنكما من باب االحتياط، تخزين كمية من المواد الغذائية؟ حتى إذا وجدنا أنفسنا في حاجة إلى عرضها في السوق أمكننا المحافظة على سعر ثابت لها، فأجابا، " بكل تأكيد، وماهي الكمية التي يتعين تخزينها؟" قلت لهما، "تموين يكفي لشهر أو شهرين"، ولم يفطنا لشيء، وهذا ما كنت أرغب فيه. واستعديت بعد ذلك أولئك الذين سيصبحون إلى جانبي المسؤولين الثالثة عن المسيرة وهم: الجينرال أشهبار الكاتب العام إلدارة الدفاع، والجنرال بناني من المكتب الثالث، والكولونيل ماجور الزياتي من المكتب الرابع، وبعد أدائهم اليمين بعدم إفشاء السر حتى ولو لم يكونوا متفقين على ذلك، شرحت لهم أن عدد المشاركين في المسيرة سيصل إلى ثالثمائة وخمسين ألف نسمة. فقالوا مستفسرين "لماذا كل هذا العدد؟" فأجبتهم، " إن المسألة في غاية البساطة. فهناك ثالثمائة وخمسون ألف مغربي ومغربية يولدون كل سنة، وبالتالي فإن هذا العدد ليس باألهمية التي تؤثر على عدد السكان". وقد ألهبت الكرة على التو حماسهم وشرعوا في العمل بدون كاتبات أو أجهزة حاسوب، وكانوا يحررون كل شيء بأيديهم، حيث كان يتعين إحصاء كمية الخبز الالزمة إلطعام ثالثمائة وخمسين ألف شخص، وعدد الشموع الضرورية إلنارة الخيام. وهكذا عملنا- نحن األربعة- في سرية تامة حتى مطلع شهر أكتوبر، وهنا كان البد من اإلسرار للحكومة بذلك، وكذا لعمال األقاليم حتى يفتحوا في الوقت المناسب المكاتب لتسجيل المتطوعين.
سؤال: لماذا تأخرتم كل هذا التأخير في إخبار الحكومة؟
جواب: ألن كتمان السر كان أسهل بين أربعة أشخاص، أكثر منه بين ثالثين. فما بالكم إذا أفشي السر ألزيد من أربعين عامل إقليم سيما وأن تسرب هذا السر كان سيكون مميتا وستكون له انعكاسات وخيمة على الصعيد الدولي. وبحلول 57 أكتوبر، أصدرت محكمة العدل الدولية بالهاي رأيها االستشاري واعترفت فيه بأن روابط البيعة كانت قائمة على مر العصور، بين المغرب والصحراء. فوجهت خطابا إلى شعبي أعلنت فيه عن تنظيم المسيرة الخضراء. وقبل أن أتم خطابي، وكان ذلك في الساعة الثامنة ونصف مساء في بهو مفتوح النوافذ، بدأت أصداء الصيحات المتعالية من األحياء المجاورة للقصر بمراكش تصل إل مسامعي. ففي كل مدن وقرى المملكة خرج الناس إلى الشوارع يهتفون ويصيحون: "نحن متطوعون"، لقد تجمهرت في كل مكان حشود تفيض حماسا منقطع النظير، وكان باإلمكان لو أردنا ذلك أن نعبئ مليونا أو مليوني شخص لهذه المسيرة . وقد شكلت النساء عشرة في المائة من العدد اإلجمالي للمتطوعين، واكتشفنا فيما بعد أن منهن من كن حامالت، وإن إحدى عشر وضعن حملهن إبان المسيرة، ولم تحدث خالل شهر ونصف أي وفاة.
سؤال : ألم يبد بعض الزعماء األجانب انزعاجا من مبادرتكم؟
جواب : على الصعيد الرسمي لم يكلف أي منهم نفسه عناء استفساري. على أنه إذا كان علينا خوض حرب فتلك قضية ترجع إلينا. وبما أن المغرب كان معبأ أحسن تعبئة، فإن طرح سؤال من أي كان سيبدو سخيفا، كما أنه لم يحصل استفساري لمعرفة وجهة نظري من أي رئيس أجنبي. لقد انهمكنا في إعداد األغطية والمواد الغذائية، واألدوية الالزمة لثالثمائة وخمسين ألف شخص، كما اشترينا لهم خزانات مطاطية لحفظ الماء حتى ال يعانون من أي نقص فيه. ولم يحدث في أي وقت من األوقات أن عرفت األسواق خصاصا بسبب عدم التمكن من نقل الطماطم أو اللحوم مثال. وكنت أنام قليال، لكنني كنت أشعر بحيوية ونشاط، ربما لم أحس بهما من ذي قبل. لقد كنت فخورا بشعبي. كما كنت في نفس الوقت أعي جيدا أنه لو سارت األمور على خالف ما كنت أتمناه لكان ذلك بمثابة كارثة أتحمل تبعتها وحدي.
سؤال : على أي شيء كنتم تراهنون وأنتم تعلنون عن هذه المسيرة؟
جواب : كان األمر يتعلق برهان سيكولوجي يتوقف عليه كل شيء، حيث كنت أعرف أن فرانكو وحاشيته عسكريون، فإذا تصرفوا كعسكريين حقيقيين فما كنت أخالهم يطلقون النار على ثالثمائة وخمسين ألف مدني عزل. سؤال: ولو حدث أن وقعت مواجهات ومذابح؟ جواب: في عديد من الخطب التي وجهتها آنذاك، كنت أحذر المشاركين في المسيرة من " أننا قد نجد حقول ألغام ومصفحات، وقد نواجه مدفعيات فوهاتها مصوبة نحونا". فخالل الشهرين اللذين كنت أهيئ فيهما للمسيرة الخضراء كان هاجس واحد هو شغلي الشاغل وكان يتمثل في ذلك السؤال الذي ما فتئت أردده على مسامع جميع محاوري" ترى هل سيشبه الشباب المغربي المدلل اآلن بمظاهر التقدم، آبائهم؟ وهل ستكون لهم كامل الشجاعة لمواجهة الدبابات؟ وكان كل من طرحت عليه السؤال يرد قائال، " أن الشباب المغربي لم يتغير، إنه من طينة نفس الشعب".
سؤل: هل كان خوان كارلوس مشاركا في المفاوضات؟
جواب : كال، لم يكن في الواقع مشاركا، فقد تم إيفاده إلى جزر الخالدات لكبح جماح العسكريين، وإفهامهم أن األمر يتعلق بقضية اتخذت منحى سياسيا وليس عسكريا. وكان الجنرال فالديز قائد القوات اإلسبانية بالصحراء رجال في غاية االنضباط، كما أنه لم تصدر عن إذاعتنا الوطنية - طيلة المدة التي استغرقتها المسيرة- ولو كلمة واحدة نابية تجاه إسبانيا، وما كنا نردده باستمرار هو" أن محكمة العدل الدولية قد أنصفتنا". سؤال : في أي وقت بالضبط قررتم وقف المسيرة؟ جواب : في الوقت الذي أدركت فيه جميع األطراف المعنية أن يستحين أن تحل الدبلوماسية محل الوجود بالصحراء، ولم يكن إرسال المغاربة في مسيرة إلى الصحراء، باألمر األكثر صعوبة، بل كان األكثر من ذلك هو التأكد من أنهم سيعودون بانتظام عندما يتلقون األمر بذلك وهم مقتنعون أن النصر كان حليفهم، وذلك ما حصل بالفعل، وبهذا الخصوص قد روى لي الملك خوان كارلوس فيما بعد واقعة طريفة، هي أن صحفيا إسبانيا استقل سيارة أجرة من مدينة أكادير لإللتحاق بالمسيرة الخضراء في طرفاية، وعلى بعد مائة كيلومتر من أكادير سمع السائق خطابي الذي أعلنت فيه أن المسيرة قد أدت مهمتها، وطلبت من المشاركين العودة، وتوقف السائق على الفور وعاد على أعقابه. فسأله الصحفي وهو في غاية االندهاش، ترى ماذا دهاك؟ فأجابه السائق: "لقد أمر ملكنا بالعودة وعلي أن أمتثل ألمر سيدنا".
سؤال: كيف كان رد فعل بومدين تجاه المسيرة الخضراء؟
جواب: لقد أوفدت له الحاج محمد باحنيني وزير الدولة األمين العام للحكومة الذي كان صديقي وأستاذي والذي كان بحق ذاكرة المغرب، وبعد عودته، روى لي أن بومدين في حالة غير طبيعية، حيث بادره القول، " إنها حماقة أن تجمع 012 ألف شخص ليس أمرا هينا، إذ تصعب السيطرة على الوضع، السيما وأن ذلك يحدث على حدود بالدي وأنا معني بهذا األمر". والواقع أن بومدين كان يبحث عن أي سبب يمكنه من الزعم أنه معني بالموضوع. فهو لم يخف محاولته هاته.. إذ كان يردد مطالبته على الدوام بتقرير المصير، في فيتنام والكمبودج انطالقا من اقتناعه الراسخ، لذلك كان يرى أنه من الجور الصارخ أن ال يطالب بنفس الشيء للبوليساريو الذي كان يوجد على حدود الجزائر، إنه لغريب حقا أن يقول بومدين عن نفسه أنه مولع بالديمقراطية ومناصر لتطبيق مبدأ تقرير المصير.
سؤال : ومتى التقيتم به بعد المسيرة الخضراء؟
جواب : لم أره قط منذ المسيرة الخضراء. ففي سنة 5797 ،كنا قد اتفقنا على االلتقاء في سرية تامة في بلجيكا، وأشعرنا بذلك السيد"راس"، رئيس المخابرات البلجيكية الذي بحث الموضوع مع العاهل البلجيكي والوزير األول ووزير العدل، وقد هيأ البلجيكيون قصرين متجاورين، واقترح علي بومدين تاريخ 52 يوليو، فقلت له "إنني في تاسع وعاشر يوليو أكون دائما منشغال بعيد الشباب، أال نلتقي بعد بضعة أيام من ذلك؟ إال أنه بعدد أيام قليلة سقط طريح الفراش ونقل إلى موسكو، تم أعيد إلى الجزائر وهو في غيبوبة تامة، إلى أن وافاه األجل المحتوم، وعلى أية حال كان من األفضل عدم التقائنا.
سؤال: لماذا؟
جواب: ألنه كان سيسفر عن لقائنا بدون شك، اتفاق وتسوية لقضية الصحراء، وكان سيتوقف عن أي تدخل في شؤوننا الداخلية، لكنه لم يكن ليقبل مطلقا أن نسترد النصف اآلخر من الصحراء، الذي كان يريده إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. غير أن هذا الجزء من الصحراء رد إلينا بعد شهر من ذلك، وبالضبط في 57 غشت 5797 .وإذ ذاك تنفست الصعداء وقلت مع نفسي" من حسن الحظ أن اللقاء على انفراد مع بومدين لم يتم"، وكان جليا أنه لم يكن في مقدور الموريتانيين، الحفاظ على الجزء الجنوبي من الصحراء، وإنهم كانوا سيتخلون عنه ذات يوم. كما كان باديا للعيان أيضا أن للبوليساريو سيستغل الفرصة لينقض على الداخلة، وجميع ضواحيها. لقد فطنت لذلك، وقمت أنا ووزيري في الداخلية إدريس البصري واألركان العامة للقوات المسلحة الملكية بإعداد إدارة محلية انكبت على دراسة الخرائط الجغرافية. وذات صباح باكر، وبعد أن غادر آخر جندي موريتاني برج المراقبة بالداخلة، أقمت جسرا جويا تم عن طريقه نقل جميع السلطات العسكرية والمدنية والقضائية ومسؤولي األشغال العمومية.
سؤال: أود أن أعود مرة أخرى إلى المسيرة الخضراء، فكيف يشعر المرء أن أمرا هاما يتم اإلعداد له وأن هناك فرصة سانحة يجب انتهازها؟
جواب: إن األمر شبيه إلى حد ما بحالة الطقس شريطة أن ال يعيش المرء في بلد ذي فصلين فقط. حيث يكون نصف السنة شتاءا والنصف اآلخر صيفا. وحيث يحس المرء بقرب تغير الجو، وعندما تتلبد السماء يتعين عليه اتخاذ قرار إما باللجوء إلى أقرب ميناء لإلحتماء به أو مواصلة اإلبحار مع تالفي الصخور، والواقع أنني استشعرت تلك األشياء، لكن ال أستطيع أن أشرح لكم ذلك بمزيد من التفصيل.
سؤال: ومع ذلك في سنة 5797 ،و5782 ،كان يبدو أن الملف المغربي حول الصحراء لم يكن بالشكل المطلوب على الصعيد الدبلوماسي؟
جواب: أبدا فال يجب أن نغفل أن العالم كان آنذاك مقسما إلى مجموعتين، فهناك الغربيون الذين كانوا ينتمون إلى ناد، وهناك اإلتحاد السوفياتي ومن يدور في كنفه الذين يكونون معسكرا. ففي النادي ليس هناك تضامن مطلق سواء على المستوى األفقي والعمودي أما في المعسكر، فإن التضامن يكون فيه مطلقا عن كل قيد. ومن هذا المنطلق، فليس صحيحا أن الملف المغربي حول الصحراء لم يكن مسيرا بالشكل المطلوب، كل ما هنالك أن الملف الجزائري كانت تتكفل به أزيد من ستون دولة. ففي كل مرة كان يذهب فيها مبعوث جزائري إلى إحدى العواصم الخاضعة لنفوذ اإلتحاد السوفياتي كان يحصل على كل ما يطلبه من دعم لوجيستيكي سوفياتي. أما بالنسبة للمغرب فلم يكن يعتمد على بلد واحد أو بلدين من النادي الغربي وحتى هذا االعتماد كان مرتبطا بمزاج ما، في حين أن الجزائر كانت تتلقى السند من جميع الدول التي تدو ر في فلك االتحاد السوفياتي، بما في ذلك سفاراتها وشبكاتها اإلعالمية.
سؤال : وعندما تم سنة 5797 اعتراف خمس وثالثين دولة بالجمهورية الصحراوية، ألم يكن ذلك برهانا على كفاءة المعسكر السوفياتي؟
جواب : بكل تأكيد، وسأقدم لكم مثاال آخر. لقد ذهبت في زيارة رسمية لإلتحاد السوفياتي، وكنت أعرف معرفة جيدة الوزير األول السيد أليكسي كوسيغين، الذي أعتبره من أبرز الشخصيات التي قابلتها، وقد كان ملما بملفاته أكثر بكثير من بريجنيف، وكان يتميز بسعة صدر مدهشة. وهنا أسوق لكم رواية : فقد كنت أتناول معه طعام الغذاء بحضور بريجنيف وبودغورني، وحين حمل إلى كبير الخدم الشاي الذي أعده بالنعناع مال نحوي كوسيغين وهمس في أذني: "كيف تودون تقديم الشاي لهذين الفالحين الروسيين، وهما ال يعرفان إطالقا حتى ما تعنيه كلمة شاي. دعهما يحتسيان الفودكا". وخالل مقامي بموسكو حاولت التوصل إلى اتفاق بشأن إحدى القضايا، ذلك أن المغرب كان يستورد 82 أو 72 في المائة من مادة السكر وكان يتعين عليه فضال عن ذلك تسديد ثمن هذه المادة بالدوالر، فتقدمت باإلقتراح التالي إلى كوسيغين: أن االتحاد السوفياتي ينتج السكر، فلماذا ال نبرم اتفاقا بهذا الشأن، بحيث يستورد المغرب السكر من االتحاد السوفياتي، ويستورد االتحاد السوفياتي من المغرب الحوامض والفوسفاط اللذين هو في أمس الحاجة إليهما، نظرا ألنه ال يستطيع استغالل منتوجاته بحكم ما يعرفه طيلة نصف سنة من صقيع وجليد، فرحب كوسيغين بالفكرة أيما ترحاب ألنه وجدها فكرة ممتازة. إال أنه عاد لمقابلتي بعد الزوال وهو في غاية الحرج والضيق قائال لي :" لقد أبلغتني المصالح التابعة لي أن هناك بندا في االتفاقية المبرمة مع كوبا يمنعنا بتاتا من مضايقة أسواق هفانا، وهنا أيضا يطفو المعسكر على السطح، فكوسيغين كان يعرف جيدا أنه سيخسر الكثير بعدم إبرام هذه الصفقة معي، لكن لم تكن بيده حيلة، إذ اليستطيع مضايقة كوبا.
سؤال : هل سبق أن التقيتم بكاسترو؟
جواب : في سنة 5707 ،وبعد قضية الصواريخ جاء كاسترو إلى األمم المتحدة، ، حيث كنت موجودا ، فاستمعت له وهو يوجه السب والشتم إلى الواليات المتحدة األمريكية طيلة أربع ساعات. وكانت الخطوط الجوية السوفياتية تؤمن الرحالت بين موسكو وهافانا تتوقف في الرباط، وذات يوم أشعرت أن كاسترو يود وهو في طريقه إلى موسكو، االلتقاء بي أثناء توقفه بالرباط. وفعال اجتمعنا لمدة ساعتين، وتناولنا طعام الفطور معا. وكان يرتدي الزي العسكري دون نياشين، وكان بسيكاره المعهود يتمتع بكياسة وثقافة مدهشتين. سؤال : وماهي المواضيع التي تطرقتما إليها؟ جواب: تحدثنا عن إختالفنا االيديولوجي. ولقد ترك لدي االنطباع بأنه ليس ماركسيا متشبعا بالفكر الماركسي فحسب، ولكن أيضا كان رجال مصمما على عدم االقتناع سوى برأيه، مصما أذنيه عن كل المحاوالت، وأعتقد أنه ذهب بعيدا في تعهداته، وكان يدرك أن اإلخالل باإللتزامات يكون أحيانا أكثر أذى من مجرد التمسك باختيار معين. ومهما يكن األمر ، ولما أنه كان يستعصي علي أن أجعل منه مسلما غير شيوعي ملحد، فقد أضعنا وقتنا، ولكن بذكاء.
سؤال : لقد كانت وضعية المغرب بالصحراء سنتي 5797 و 5782 صعبة للغاية وهو يتعرض لهجومات عنيفة؟
جواب: أن ما كان يفقد األمور توازنها هو أننا لم نكن أبدا نرد على كل هجوم مكثف بهجوم مضاد، بحيث حرصت على الدوام على احترام أراضي الدول المجاورة، ولو فعلنا خالف ذلك لعمت الحرب إفريقيا الشمالية.
سؤال : كيف تفسرون الموقف المتصلب لخلف بومدين الشادلي بن جديد؟
جواب :يتعين في البداية العودة لظروف الجزائر آنذاك، فبعد وفاة بومدين كان هناك خمسة مرشحين لخالفته، وفي آخر لحظة قرر الجيش من يخلف بومدين يجب أن يكون عسكريا أوال، وفي نفس الوقت متوفرا على أسمى وأقدم رتبة عسكرية، فتوجهوا إلى الشاذلي الذي لم يكن له أي طموح، وكان شديد الحرص على اإلقامة بوهران، وأفهموه أن مستقبل الجزائر واستقرارها رهينان بقبوله تولي السلطة، وفي الحقيقة فقد أجبر على تولي رئاسة الجزائر.
سؤال : ومن كانت له اليد الطولى على السياسة الجزائرية : هل العسكريون أم المدنيون؟
جواب: لقد أحدث المدنيون متاعب لنا أكثر مما خلقها لنا العسكريون. فقد أبان الحزب الوحيد في الجزائر عن تصلب يفوق بكثير تصلب القادة العسكريين، فهؤالء كانوا سيختارون طريق التراضي، لكن رأي الحزب هو الذي تغلب في األخير.
سؤال : رغم ما كان للجيش من وزن؟
جواب : ال تنسوا أن حزب جبهة التحرير الوطني، كان آنذاك في أوجه، وكانت سياسة التصنيع المفرطة، تبدو وكأنها حققت نجاحها في مجال إحداث مناصب الشغل، كما أن العملة الصعبة كانت تتدفق على البالد بسبب ارتفاع أسعار البترول، وأمام تماسك الحزب، أبى العسكريون إحداث مشكل للدخول في نوع من اإلنشقاق، غير أنه في سنة 5775 ،وبعد أحداث الجزائر العاصمة انسحب الجيش من الحزب الوحيد، وذلك بمبادرة من الرئيس الشاذلي بنجديد. متى تم أول لقاء بينكم وبين الشاذلي؟ جواب : بمحض الصدفة، وكان ذلك بمكة المكرمة بمناسبة القمة اإلسالمية بالطائف. فجميع رؤساء الدول والوفود قرروا أداء مناسك العمرة. والطواف حول الكعبة المشرفة. وبما أنني كنت أديت هذه المناسك، فقد صعدت إلى قلب الكعبة للتعبد، بينما كان اآلخرون يطوفون حولها، وفي الوقت الذي خرجت فيه من الكعبة المشرفة، صادفت الشاذلي أمام الباب، ووجدنا أنفسنا مضطرين لتبادل االبتسامة، تم تصافحنا. والحقيقة أن القدرة اإللهية شاءت أن نلتقي. سؤال : وماذا جرى بعد ذلك؟ جواب : لقد التقيت مع الشاذلي بعد بضع سنوات بمبادرة من الملك فهد. وتم اللقاء على الحدود قرب وجدة، وجاء لتناول طعام الغذاء معي تحت خيمتي، وتباحثنا طويال لكن دون جدوى، وترك لدي انطباعا بأنه ال يؤذي، وأنه طيب وليس فظا وال مغرورا. وكنت على علم أنه سبق للشاذلي أن ذهب مرارا لمقابلة بومدين ليقول له : " إنك لست على صواب في قضية الصحراء، وأنا ضد ما تفعله"، غير أنه لألسف ترك لدي انطباعا بأنه قد جرفه تيار نظام الحزب الوحيد الذي كان الجيش ينتمي إليه آنذاك.
سؤال : ميزتم قبل قليل بين النادي والمعسكر، من هم أعضاء النادي الذين كانوا أكثر تحفظا تجاه المغرب في قضية الصحراء؟
جواب : لقد كان اإلسبان األكثر تحفظا، وقد أساؤوا إلينا كثيرا ، ومارسوا لعبة مزدوجة ، إلى أن جاء االشتراكيون إلى الحكم فأبانوا عن قدر كبير من الواقعية، واآلن فإن اتفاقية صداقة تربطنا، ونحن نعيش في صفاء تام.
سؤال : وماذا كان موقف "خوان كارلوس؟
جواب : يحق لي أن أفتخر وأعتز بأنني كنت أول من كاتبه بصفته ملكا، وعالقتنا جد حميمة، ونتخاطب بصيغة المفرد، وقد اعتدنا أن يتصل بي هاتفيا أو أتصل أنا به كلما حدث مشكل. لم تكن له سلطة تغيير مجرى سياسة حكومته.، لكنه اعتبر على الدوام أن الصحراء مغربية، وأن هناك بلدا يتعين إرجاعه إليه، هو المغرب دون غيره. كما أن العديد من العسكريين الشباب المستنيرين كانوا يشاطرون خوان كارلوس هذا الرأي وجميعهم ينتمون للجيل الجديد.
الملك الحسن الثاني: لهذا وصفني هيكل بـ "الطاغية"
لقد صرحتم مباشرة بعد أحداث الصخيرات "بأن هذه الأحداث لم تكن بالتأكيد أحداثا تلقائية"؟
لقد انساق المذبوح وراء المصريين، ومعلوم أن الجرائد المصرية تصل إلى المغرب بعد ست ساعات من طبعها. وفي يوم 10 يوليوز، وبعد سويعات فقط على المحاولة الانقلابية، كتبت صحيفة"الأهرام" القاهرية واسعة الانتشار على خمسة أعمدة، وتحت عنوان بارز: "مقتل الطاغية الحسن الثاني. انتهى الدكتاتور". وتطرق المقال إلى انتصار "القوى الحية والوطنية بالجيش". لقد أخطأوا التوقيت فخانهم التقدير، وساهم هذا الموقف الغريب في إضفاء نوع من الفتور على علاقاتنا مع القاهرة.
لقد كانت "الأهرام" جريدة حكومية، مما عقد الأمور أكثر. هل بحثتم الأمر مع السادات؟
إن أنور السادات كان صديقا وفيا مخلص الود. ولم يكن له أبدا مظهر قاتل أو متآمر، فهذا ليس من شيمه. وعندما تحدثنا في الموضوع قال لي: "تعلمون أن حسنين هيكل، مدير جريدة "الأهرام"، كان أحد رجالات جمال عبد الناصر. وكتب عني أنا أيضا الشيء الكثير، ولقد تخلصت منه لما سنحت لي الفرصة لذلك".
والتقيت في ما بعد بـ "حسنين هيكل"، وتباحثنا طويلا في الموضوع، ولقد وعدته بألا أبوح أبدا بما دار بيننا.
لماذا؟
لن أبوح بذلك أبدا.
ولكن في نظركم ما هو مصدر المساندة التي تلقاها المتمردون من الجانب المصري؟
لم أسع أبدا إلى البحث في عمق المشكل، لأنه إذا كان هناك شخص أبعد ما يكون عن الإيديولوجيا الناصرية، وحتى القومية العربية، فهو المذبوح، فأين هي نقطة الالتقاء إذن؟ إني لم أسع أبدا إلى معرفة ذلك، إذ يكون أحيانا من الأفضل عدم سبر غور الأشياء.
لماذا ترددون غالبا "من الأفضل ألا يعرف المرء"؟
لأنني أعتقد أن من الأمور أشياء أكثر أهمية يتعين تعميقها والانكباب عليها بدلا من أن أتصرف كحافر آبار التنقيب عما في أعماقها، وهذا أولا ليس من شيمي، وثانيا ذلك يجعلني أضيع الوقت، وأخيرا فإن المسؤولية الملقاة على عاتقي تحتم علي ستر عورات الآخرين عوض الكشف عنها، إنها إحدى تعاليم القرآن الكريم.
تابع القرائة من هنا:
تحميل كتاب «ذاكرة ملك» PDF من هنا:
ليست هناك تعليقات